منتجع للراحة في الربيع بقرية في قلب إيطاليا

السياحة في القرى الإيطالية الراقية، وزيارة المنتجعات التي يرتادها الناس رغبة في مياهها المعدنية، في توسع مطرد خلال السنوات الأخيرة، وآخر اكتشاف: القرية الجميلة الهادئة في قلب إيطاليا في مقاطعة توسكانا (وعاصمتها فلورنسا)، التي تقع في منتصف الطريق بين روما وفلورنسا، والفندق الذي أقام فيه قائد الأوركسترا الشهير أرتورو توسكانيني (1867 - 1957) قبل نحو ثمانين سنة لمعالجة آلام التهاب المفاصل.

يمكنك ركوب القطار تجاه بلدة كيوزي الشمالية، أو استئجار سيارة في روما، والاتجاه شمالا على الطريق السريع، ثم اللف تجاه قرية فابرو في أرض كيانتي، الشهيرة بهضابها البديعة وبإنتاج العنب وزيت الزيتون الفاخر، ومركزها مدينة سيينا التاريخية. وبعد 7 كيلومترات، ستجد نفسك في قرية بياتزيه piazze قرب شيتونا cetona وسط الطبيعة الخلابة التي أوحت للفنان الخالد ليوناردو دا فينشي برسم لوحاته التي لا تقف عند المظهر الخارجي للأشياء، بل يتعمق الأمور حتى ينفذ إلى داخلها باحثا عن سر الجمال في تدرج الظلال والضبابية الرقيقة. فنرى أثناء جولتنا أشجار السرو النحيلة، وكأنها خرجت من لوحاته قبل 500 عام، كما نلحظ الأشجار المثمرة وكروم العنب والبحيرات الصغيرة ومنتجعات المياه المعدنية وكأنها لوحات تنتظر من يرسمها، ويتعمق في كنه جمالها. تبدو المناظر الطبيعية الريفية كما كانت عليه أيام عصر النهضة الإيطالية من دون تبديل وكما رأيناها في فيلم «المريض الانجليزي» عام 1996 حول الممرضة جولييت بينوش، التي تعالج مريضا في وسط إيطاليا خلال الحرب العالمية الثانية، ظنت أنه إنجليزي، لكن يظهر أنه جغرافي مجري كان يحاول رسم حدود الصحراء في شمال أفريقيا، أو فيلم «الجمال المسروق» للمخرج السينمائي المعروف برناردو بيرتولوتشي عام 1996، الذي يعرض المناظر الطبيعية الخلابة لوسط إيطاليا.

الفندق الوحيد في قرية بياتزيه يدعى «لوكاندا توسكانيني» (ولوكندة هي الاسم الإيطالي لكلمة: نزل أو مضافة) وفيه 9 غرف وجناح واحد، وقصته مثيرة تحتاج إلى من يخرجها كفيلم سينمائي. تقول صاحبة الفندق كورتني ولش، مراسلة قناة «فوكس» الأميركية وزوجها المهندس المعماري ميكيل أنيزي، الذي يدير الفندق، إن المبنى قديم تم إنشاؤه عام 1898، وكان يملكه في ثلاثينات القرن العشرين طبيب غريب الأطوار يدعى ألبرتو رينالدي، اشتهر بأبحاثه العلمية في المعالجة، بإعطاء جرعات صغيرة من دواء لو أعطي لشخص سليم لأحدث عنده مثل أعراض المرض المعالج، كما اشتهر أيضا بالوسوسة المفرطة، إذ يحقن المريض بإبرة العلاج في الساعة الثانية صباحا لاعتقاده أن المريض في ذروة الراحة، وبالتالي يكون العلاج أكثر فعالية. تصادف في عام 1932 أن توسكانيني قائد أوركسترا نيويورك الفلهرمونية، المعروف ببراعته الموسيقية الفائقة ومكانته الخاصة في عزف أوبرات الموسيقار فيردي وطبعه الحاد الموصل، إلى نوبات الغضب الشديدة، أصيب بألم في ذراعه اليمنى منعه من قيادة الأوركسترا، ولم يتمكن الأطباء الأميركيون من علاجه، فاضطر إلى العودة إلى بلاده. وسمع بصيت الدكتور رينالدي في معالجة داء السل وغيره من الأمراض حسب طريقته الخاصة، فسافر إلى مقاطعة توسكانا، وأقام لعدة أشهر في الطابق الأعلى للفيلا التي يملكها الطبيب، والتي تحولت إلى فندق الآن. ونشأت بين الاثنين صداقة حميمة، وبخاصة أنهما كانا يكرهان النظام الفاشي الشمولي المسيطر على إيطاليا آنذاك. كما أحب توسكانيني المنطقة وجمالها الطبيعي ومنتجع فونته فيرده للمياه المعدنية المجاور، الذي يحس المستحم فيه بأن ماءه يشبه مستحضرا طبيا تجميليا يرطب الجسم. ثم بدأت قصة غرام بين المايسترو الكهل وجارة شابة له طالت لعدة سنوات، وبعد شفاء توسكانيني تعرض الطبيب للقتل عام 1936 على يد مجهول، ربما كان للفاشيين اضطلاع بها، أو ربما حاول القاتل سرقة تفاصيل الوصفات السحرية للشفاء، وبقي اللغز كامنا حتى اليوم.

تقول كورتيني ولش في مقابلة مع «الشرق الأوسط» إنها كانت معتادة في أميركا على العيش في الريف وفي مساحات واسعة في ولاية ميريلاند قرب واشنطن، لذا أحبت منطقة كيانتي وتلالها الخضراء، وعلمت بوجود فيلات في بلدة شيتونا يملكها مصمم الأزياء فالنتينو، ورجل الأعمال الثري أنييللي. وبعد زواجها عام 1993 وإقامتها في روما كمراسلة لصحيفة« كريستيان ساينس مونيتور» و«بلتيمور» صن ثم انتقالها إلى «فوكس نيوز»، قامت بالتحري عن مكان هادئ فسيح لا يبعد أكثر من ساعة ونصف عن العاصمة الإيطالية، ووجدت ضالتها في الفيلا المهملة التي قطنها توسكانيني في قرية صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها 500 نسمة، فاشترتها مع زوجها عام 2003 الذي قام بإصلاحها وتجديدها، بعد أن كانت تحولت إلى مخزن لحفظ الزيتون ومعصرة للزيت المميز، الذي تنتجه تلك الأرض الخصبة، وحوّلها إلى فندق عائلي صغير يتميز بالتاريخ والدفء والتسهيلات الحديثة، بما فيها مطعم ممتاز للنزلاء والسياح يدعى «المعصرة» يقدم عدة أنواع من المعجنات واللحوم والأسماك، وبخاصة الأطباق المعروفة في إقليم توسكانا الشهير باللحوم المشوية، والطرائد والأرانب والكمأة البرية.

يمكن للزائر بالإضافة، إلى متابعة برامج التلفزيون والفضائيات في غرفته، أن ينتقل بسهولة لزيارة بحيرة قريبة، أو زيارة مدينة أورفيتو، التي تبعد نصف ساعة عن المكان وتشتهر بكنيستها ذات الطراز القوطي، أو زيارة مدينة سيينا المعروفة بأسوارها وأبوابها التاريخية، ونشأة أول بنك في العالم فيها، ما زال ناشطا حتى اليوم، وهو بنك «مونته دي باسكي دي سيينا»، ورؤية العروض بملابس القرون الوسطى، ومرافقة الفرق الموسيقية التي تجوب الشوارع، أو سباق الخيول السنوي على أرض مبلطة في ساحة المدينة، من دون استعمال الفرسان للسروج على ظهر الأحصنة، كما كانت الحال قبل ألف سنة، أو زيارة بلدة ديلا بييفه في إقليم أومبريا المجاور لتوسكانا. أما الطعام الفاخر، فسيجده في بلدة شيتونا القريبة في جو طبيعي خلاب وحديقة كبيرة مليئة بأشجار اللوز والزيتون حول دير قديم بناه القديس سان فرانشسكو عام 1212، ويدعى المطعم «رهبنة الأب إيليجيو»، ويديره منذ عقدين أحد كبار الطهاة في إيطاليا وهو والتر تريبودي، وسعر الوجبة فيه لشخص واحد يعادل إقامة ليلة واحدة في لوكندة توسكانيني، أي نحو 100 يورو (140 دولارا).

سألت كورتيني عن مشاريعها المستقبلية، فأجابت قائلة: «لقد انضممت إلى محبي زيت الزيتون وفوائده الصحية منذ وصولي إلى إيطاليا. إننا ننتج نوعا ممتازا من هذا الزيت على أرضنا، فقد تعلمت أساليب جمع الزيتون وعصره، وأنوي تأليف كتاب عن الموضوع وآمل أن يصبح من أكثر الكتب مبيعا».

مرت على تلك المناطق الجيوش الغازية منذ أيام الرومان، كما احتلها البرابرة القادمون من الشمال، ثم شارلمان ملك الفرنجة أيام هارون الرشيد. ومن إقليم توسكانا انطلقت حركة النهضة الأوروبية، لكن الطبيعة الخيرة والجمال الآسر بقيا على حالهما، وينابيع المياه المعدنية التي اكتشفها الرومان ما فتئت تعالج المرضى وطالبي الراحة والهدوء. واليوم، أصبحت السياحة المقتصدة هدفا للكثير من الزوار المحليين والأجانب، كما غدا أسلوب «فراش وفطور» (أوbed and breakfast بالإنجليزية) المتطور، موضة حديثة تجمع بين السياحة الثقافية والطبية والهواء الطلق المنعش والزراعة. وفي إمكان الزائر التطوع لعصر الزيتون أو العنب، والتمتع بعيشة الفلاح، أو رسم لوحة للطبيعة قد تنافس لوحات ليوناردو دا فينشي يوما ما.